بيروت.. الشارع «ينفجر» بوجه السلطة والآفاق غامضة
خرج لبنان، الوطنُ المستعصي على الثوارت بقوةِ الوهْج الطائفي، إلى «انتفاضةٍ بيضاء»، أهلية – شعبية فجّرتْها الأوضاعُ الاجتماعية في لحظةِ انهيارِ منظومةِ القيَم في السياسة والحُكْم، والواقعُ المالي – الاقتصادي، والتمادي في ترويض المؤسسات لخدمة مشاريع خاصة واستتباع الدولة لمشاريع إقليمية.
ولم تحمل انتفاضةُ اللبنانيين الذين قرّروا التمرّدَ على الاصطفافات السياسية والطائفية شعاراتٍ كبرى من النوع الذي تضجّ به «اللغة الخشبية» الرائجة، بل حَمَلوا إلى الشارع حكاياهم الشخصية مع المعاناة والشقاء اليومي في زمنٍ بائسٍ حرمهم أبسط حقوقهم كمواطنين في بلادٍ تحْكمها المعاركُ السياسية الـ «دون كيشوتية».
من بيروت المُهَمَّشة، ومن الجبل الجريح، من الشمالِ المنكوبِ والجنوب المكتومِ الصوت، من البقاع المتصحّر ومن عموم لبنان المسلوب الإرادة، خرحتْ التظاهراتُ التي أرادتْ القول «طفح الكيل» و«كفى» بمعزل عمن سيحاول إدارتها من الخلف أو استغلال حشودها أو تخريبها لإجهاضها.
وبدا واضحاً من مسار «طوفان الناس» أن «الغضبةَ» هي أبعد من «ثورة واتساب»، رغم أن رسْم الـ 20 سنتاً (تم التراجع عنه ليل الخميس) على أول مكالمة يُجريها المشترك عبر الانترنت يومياً من خلال التطبيقات الهاتفية التي تتضمّن خدمة الاتصال (تستخدم نظام التخابر عبر الإنترنت VoIP voice over IP) شكّل الشرارةَ التي وصفها المحتجون بأنها بمثابة الـ wake up call التي «أيقظتْ» الهبّة الشعبية غير المسبوقة منذ أعوام بعدما تحوّلت الإجراءاتُ الضريبية التي لوّحت بها الحكومة بمثابة النقطة التي أطفحتْ كأس الاحتقان المعتمل في نفوس اللبنانيين الذين لم تكن خمدتْ بعد «حرْقتُهم» على غزوة النار في الشوف والمتن والشمال والتي ظهّرت «تَحَلُّل» الدولة وعدم قدرتها على «إدارة الكارثة الوطنية» حتى باغتتْهم السلطةُ بقرار مدّ اليد إلى جيبوهم في إطار محاولة إنقاذ الواقع المالي الذي باتت معه البلاد وكأنها بين ناريْ خياراتٍ موجعة تمسّ الناس وإصلاحاتٍ جذرية تعترضها تعقيداتٌ سياسية.
ومنذ ليل الخميس، كان «هديرُ» الشارع المنْتفض في بيروت والجبل والشمال والجنوب والبقاع تحت عنوان «ثورة ولتسقط الحكومة والعهد»، والذي تحوّل معه لبنان «بركانَ غضبٍ» وانفجرَ، أقوى من الأسئلة الكبرى حول مآل ما بدا وكأنه «14 مارس اقتصادية – اجتماعية» (في استحضار لمشهدية 14 مارس 2005 و«ثورة الأرز» بوجه الوجود السوري في لبنان) وما إذا كانت حركة الشارع الجارفة قادرةً على قلْب الطاولة وما عليها في بلادٍ هي أسيرة ترسيماتٍ طائفية ومذهبية وحزبية، وهل من قطب مخفية أو «فخّ» نُصب لدفْع البلاد نحو مرحلة جديدة تلاقي التحولات المتسارعة في المنطقة.
وفي «جمعة الغليان» الشعبي، انشدّت العدساتُ في لبنان وخارجه إلى الاحتجاجات التي «لم تنَم» منذ الخميس والتي قُطعت معها أوصال البلاد مع قفْل عددٍ كبير من الطرق التي تربط المناطق، في مختلف المحافظات، وعزْل بيروت التي سرقتْ الأنظارَ تظاهراتُ وسطِها وما تخلّلها من مواجهات تجدّدت عصر اليوم وأعمال شغب على تخوم السرايا الحكومية لم توفّر واجهاتٍ زجاجيةً في مبنى اللعازارية وأبنية مجاورة وسط تجدُّد إضرام نيران في مبان قيد الإنشاء مساء الجمعة (غداة وفاة عامليين سوريين اختناقاً جراء حريقٍ امتدّ إلى مبنى بناية شهوان قرب جامع محمد الأمين)، فيما شغل «حصارُ» مطار رفيق الحريري الدولي سفارات عربية وغربية حاولت توفير طرقٍ لتأمين مغادرة رعاياها بيروت بعد تحذيرات من التوجه إلى أماكن التجمعات والتظاهرات.
وانطبعت «كرة ثلج» الاحتجاجات، التي شارك فيها فنانون وإعلاميون وترافقت مع خشية من تحوُّلها «كرة نار»، بمجموعة علامات فارقة ذات دلالات سياسية على جانب من الأهمية وأبرزها:
* المشاركةُ غير المألوفة للمناطق ذات الغالبية المسيحية في «الصرخة» التي جاءت على وقع إضراب «قسري» في مختلف القطاعات وإقفال للمدارس والجامعات والمصارف، وسط اعتبار أوساط سياسية أن هذا التحرك الوازن في تلك المناطق أظهر نقمة عارمة على العهد «و»المسيحي القوي«(الرئيس ميشال عون) وبدا بمثابة رسالةٍ بالصوت العالي بوجه رئيس»التيار الوطني الحر«وزير الخارجية جبران باسيل الذي يوصف بأنه»الرجل القوي«(في العهد). علماً أن»اندفاعة الغضب«شملت محيط مقرّ التيار في»ميرنا الشالوحي«ومسقط باسيل في البترون، وسط هتافات وكلام لمحتجّين دعوا الرئيس عون للرحيل وهاجموا باسيل.
* انخراط مناطق نفوذ الثنائية الشيعية (حزب الله وحركة أمل) في التظاهرات التي حملت إشارات تَمَرُّد على هذه الثنائية ولا سيما جنوباً، وهو ما تجلى في التعرّض لبعض صور رئيس البرلمان نبيه بري وظهور شبان في فيديو وهم يقومون بإسقاط قوس حديدي لحركة»أمل«على الأرض على أحد مداخل الجنوب وعليه صورة بري.
وتزامن ذلك مع تَجمُّع متظاهرين غاضبين أمام مكتب النائب علي بزي (من كتلة بري) في بنت جبيل قبل ان يقتحموه ويعمدوا إلى كسر اللافتة التي تحمل اسمه ودهْسها في وسط الساحة، كذلك قاموا بإضرام النار أمام مكتب نائب»حزب الله«حسن فضل الله، وذلك غداة استهداف محتجين مكتب رئيس كتلة نواب الحزب محمد رعد في النبطية حيث حطّموا لوحةَ مدْخله هاتفين»الشعب يريد إسقاط النظام«، واقتحام آخَرين مكتب النائب هاني قبيسي (من كتلة بري)
وتَظاهُر قسم ثالث تحت منزل زميله في الكتلة نفسها النائب ياسين جابر حيث أحرقوا يافطة تحمل اسمه.
* استقطاب عاصمة الشمال طرابلس الأنظارَ مع اتساع رقعة الاحتاجات فيها لتشمل إنزال صور للرئيس الشهيد رفيق الحريري تجمعه بنجله رئيس الحكومة سعد الحريري، ومحاصرة قصر الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي والتهديد بمصادرته، قبل تسجيل سقوط عدد من الجرحى بإطلاق نار على متظاهرين عصر الجمعة خلال إشكال مع مرافقي أحد فاعليات المدينة تردد انه النائب السابق مصباح الأحدب.
* تَحوُّل المقرات الرئاسية أشبه بـ»ثكن عسكرية«مدجَّجة بالحماية تفادياً لأي محاولات لاقتحامها. فإلى جانب السرايا الحكومية التي كانت هدفاً دائماً للمحتجين، برزَ الطوق الأمني في محيط القصر الجمهوري (في بعبدا) حيث أقام حرَسه»خط دفاع«على مسافة نحو كيلومتر (من القصر) تجمّع على مشارفها متظاهرون، وسط مناخاتٍ عَكَسَت أجواء إرباك وعدم ارتياح في»بعبدا«لمسار الأمور وآفاقها المحتملة، وذلك رغم إطلالة باسيل من القصر والتي حاول من خلالها»نفض يد التيار«من أي مسؤولية عما آلت إليه الأوضاع، والتي بدا أنها لم تُقْنِع المحتجين الذين لاقوها بردود أكثر من سلبية.
* مجاهرة أحزاب في الحكومة بمشاركتها في الاحتجاجات على الأرض، وأبرزها»الحزب التقدمي الاشتراكي«بزعامة وليد جنبلاط الذي لم يتوانَ عن اتهام العهد بالمسؤولية عن»خراب البلد«وسط دعوة قادة في حزبه إلى إسقاط العهد، فيما طلبت»القوات اللبنانية«من مناصريها الانخراط في الحِراك الاحتجاجي بعدما كان رئيسها سمير جعجع طالب الحريري بالاستقالة.
ولم يكن ممكناً وسط دخان الحرائق والطرق المقطّعة وصيحات الضغب المتعالية والقبضات المرفوعة و»الجبهات المستنفرة«بين القوى الأمنية والمحتجين في وسط بيروت استشراف آفاق المرحلة الجديدة التي دخلها لبنان.
وإذ كان الرصد طوال اليوم لإطلالة الرئيس سعد الحريري (بعدما ألغى جلسة مجلس الوزراء التي كانت مقرّرة في بعبدا وتلقى اتصالات خارجية ابرزها من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون) لقول كلمته حيال»الخطوة التالية«التي سيقوم بها، استوقف الأوساط السياسية غمْز جنبلاط من قناة أبعاد إقليمية للمأزق اللبناني، اذ أعلن ليل الخميس»وصلت الرسالة الداخلية والخارجية، يقولون لنا لا مجال لحكومة فيها معارضة وموالاة، وإذا كان صحيحاً أن الحكومة انتهت فلا مانع، ولكن لن نشارك كحزب في حكومة آحادية«، قبل أن يؤكد»لن أترك سعد الحريري وحده«كاشفاً أنه إتصل به وإقترح عليه أن»نستقيل سوياً«ومشدداً على أنه»إما أن نتحمل كلنا مسؤولية الفراغ أو فليحكموا وحدهم، ولا يحملوننا مسؤولية الخراب«.
ولأن الانهيار المالي – الاقتصادي الذي يحوم فوق لبنان لا يعود إلى عوامل تقنية بقدر ما هو نتيجة لسلوك سياسي يحكم البلاد، فإن أوساطاً واسعة الإطلاع في بيروت رأت أن الأسباب العميقة لوصول لبنان إلى الحائط المسدود وتالياً نزول الناس الى الشارع، يؤشر إلى خيارت جعلت من لبنان دولة فاشلة ولعل أبرزها:
* خروج تسوية 2016 التي أوصلت العماد ميشال عون إلى الرئاسة عن مسارها عبر عملياتِ قضْمٍ متتالية تعرضت لها وسعى من خلالها عون، الذي رفع شعار الرئيس القوي، إلى ترويض التوازنات الداخلية على النحو الذي يمكّنه من تعديل اتفاق الطائف بالممارسة والعمل على تعبيد الطريق امام صهره الوزير باسيل للوصول إلى الرئاسة، وهو ما تجلى في حجم المعارك السياسية الداخلية التي خاضها لإضعاف الآخرين.
* الخيارات التي اعتمدها الرئيس عون تجاه الخارج الذي غالباً ما كان يشكل حاضنة للبنان، فـ خاصَمَ المجتمعيْن العربي والدولي، ولا سيما دول الخليج، عبر الدفع في اتجاه تموْضع لبنان في المحور الإيراني، وهذا ما أفْقد البلاد من مكامن القوة.
* ولأن ما جرى في بيروت يشبه»انتفاضة بغداد”، فإن هذه الأوساط ترى أن التوترات السياسية والاقتصادية في ساحات نفوذ إيران تعاني عدم استقرار في ضوء التدخلات الكاسرة للتوازنات الداخلية عبر إما القوة أو تعطيل آليات تداوُل السلطة.الراى