قضايا استراتيجية : بعد 46 عاماً من نصر أكتوبر.. تغيرات البيئة الاستراتيجية ومُهددات الأمن القومي المصري
تحولات نوعية في ماهية المخاطر الأمنية ومصفوفة التحديات الجيوسياسية
محمد بدري عيد
خبير في شؤون الأمن القومي
شهدت البيئة الاستراتيجية العالمية والإقليمية منذ نصر أكتوبر العظيم عام 1973م – وماتزال- تغيرات نوعية وتحولات جوهرية ألقت بتداعياتها المباشرة وغير المباشرة على طبيعة المخاطر الأمنية والتحديات الجيوسياسية التي باتت تشكل مصادر تهديد متنامية للأمن القومي المصري..
على الصعيد العالمي، تحول هيكل توزيع القوى الدولي من النظام ثنائي القطبية ( الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق) الذي ساد منذ منتصف القرن العشرين تقريباً وحتى مطلع عقد التسعينات، حيث حل محله نظام الأحادية القطبية او القوة العظمي الوحيدة ممثلة في أميركا عقب تقكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م..
وفرض هذا التحول في قيادة قمة النظام الدولي قيوداً كبيرة على حرية حركة الدول الأخرى في مختلف قارات العالم وأقاليمه، بما فيها مصر، وحد من الخيارات الاستراتيجية المتاحة أمام صانع القرار في قضايا الأجندة الوطنية، وفي مقدمتها قضايا الأمن القومي بشقيها الداخلي والخارجي.
فمما لاشك فيه أن نظام القطبية الثنائية ساهم – إلى جانب اعتبارات أخرى- في نجاح القرار الشجاع للرئيس الراحل أنور السادات بخوض حرب الكرامة لاسترداد أرض سيناء في السادس من أكتوبر عام 1973م.
أما الأن، فإن الهيمنة الاميركية منفردة على المؤسسات الأمنية والاقتصادية والسياسية الدولية يفرض قيوداً بالغة وعلى مجرد اتخاذ قرارات سياسية- ناهيك عن أن تكون عسكرية- ناجعة، دوليا واقليمياً.
إقليمياً، ساد حتى ما بعد نصر أكتوبر بقليل، نظام إقليمي عربي قوي قادر على حماية الحقوق العرببية ودعم قضايا العروبة، وذلك على نحو ما أكدته التجربة الناجحة لاستخدام النفط كسلاح سياسي ناجع خلال حرب أكتوبر المجيدة.
إضافة إلى وجود 4 قوى عربية على الأقل كانت تمارس أدواراً قيادية في المنطقة- سواء بشكل منفرد أو جماعي- بمختلف قضايا وتطوراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهي: مصر، وسورية، والعراق، والسعودية.
أما الأن، بعد 46 عاماً على نصر أكتوبر، يبدو المشهد الإقليمي متبايناً كليا:ً
فمن جهة أولى، فإن النظام الإقليمي العربي في أضعف حالاته التاريخية على الإطلاق، ومن جهة ثانية، ثمة محاولات مستمية لاستبدال هذا النظان العروبي بأخر شرق أوسطي جديد هدفه الرئيس طمس هوية المنطقة وتفكيكها واثارت النعرات والانقسامات بين شعوبها ودولها.
ومن جهة ثالثة، حل محل القوى العربية القائدة، قوى اقليمية غير عربية ذات أهداف أو على أقل تقدير طموحات خاصة، وفي مقدمتها: إسرائيل، وتركيا، وإيران.
هذه الوضعية الدولية والإقليمية تطرح تهديدات أمنية وسياسية ومجتمعية بالغة الخطورة من منظور الأمن القومي العربي عموماً، والأمن المصري على وجه الخصوص، لعل أبرزها ما يلي:
– استهداف كيان الدولة الوطنية، عبر السعي لتفكيكها أو على الأقل إضعافها وإنهاك قواها العسكرية واستنزاف مواردها المالية والاقتصادية، وذلك من خلال وسائل حروب الجيلين الرابع والخامس، وأهمها: إثارة الفوضى السياسية، وبث الشائعات التي تهز أسس المصداقية المجتمعية، والعمليات الإرهابية، وضرب العملة الوطنية وغيرها.
– بث وتشجيع التوتر في العلاقات البينية في الدوائر الاستراتيجية للدول العربية الكبرى وفي مقدمتها: مصر، والسعي لفصم عرى التعاون والشراكة بينها وبين دول الجوار ، وكذلك بينها وبين الدول المتشاركة معها في الموارد الهامة عبر حدودها البرية والبحرية، وخاصة: النفط، والغاز الطبيعي، أو تتقاسم معها موارد ناضبة نادرة ولاسيما المياه.
– محاولة إعادة هندسة أنماط التحالفات الدولية والإقليمية، على نحو يقلص من قدرات الدول العربية لصالح تعزيز المزايا التنافسية، سياسياً وعسكرياً، لقوى اقليمية طامحة إلى توسيع نفوذها في المنطقة.
وختاماً، يمكن أن نخلص إلى أن ثمة معطيات جديدة وخطيرة في آن واحد، أصبحت تزخر بها البيئة الاستراتيجية الراهنة بعد ما يقارب 50 عاماً من حرب أكتوبر التي مثلت علامة فارقة وتحولاً وازناً في ماهية علاقات الصراع و/أو التعاون الدولي والإقليمي.
هذه المعطيات تقتضي من صانع القرار المصري دوام اليقظة الأمنية والحذر السياسي، مع استمرارية التحلي بالصبر الاستراتيجي، على نحو يجعل قرارات الدولة وسياساتها وتحركاتها، الداخلية والخارجية، تحقق غاياتها الكبرى في صون الأمن القومي، وحماية المصالح العليا، بأعلى قدر مستطاع من الكفاءة والفعالية البراجماتية، وعند أدنى مستوى ممكن من الكلفة والمخاطرة السياسية.